اشار تقرير أخير صادر عن الأمم المتحدة إلی أنّ أكثر من نصف اليمنيين (17 مليوناً حالياً و19 مليوناً بحلول نهاية عام 2022) يعانون من مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي، فيما يعيش عشرات الآلاف ظروفاً تشبه المجاعة، ومن المتوقّع أن يزداد العدد.
ولم يحصل صندوق الأمم المتحدة للمساعدات الإنسانية الخاصة باليمن هذا العام إلا علی نحو ربع ما يحتاجه من تمويل، معظمه من دول غربية. وما يزيد الطين بلّة أنّ الأغلبية الساحقة من الحكومات العربية الغنية لم تتعهّد بتقديم أيّ مساعدات لذلك الصندوق هذا العام، تاركة اليمنيين يواجهون وحدهم الحرب والجوع.
وفي مؤتمر المانحين الذي نظّمته الأمم المتحدة أخيراً طلبت نحو 4.3 مليارات دولار أميركي لتغطية عملياتها الإنسانية مع شركائها باليمن في خلال عام 2022. لكنّها لم تحصل (حتی الآن) إلا علی تعهدات بـ 1.3 مليار دولار، أي ربع الحاجة تقريباً. وأنتم في برنامج الأغذية العالمي وحده تحتاجون إلی أكثر من مليارَي دولار هذا العام لتقديم الغذاء لملايين اليمينيين، بالتالي ماذا يعني هذا النقص الحاد في التمويل في ما يتعلّق بعملياتكم وباليمنيين؟
دعيني أقول أوّلاً إنّنا سعداء لأنّ المانحين وقفوا إلی جانبنا وتعهّدوا بدفع تلك المبالغ. وأظنّ أنّ النزاع في أوكرانيا (الاحتياجات هناك) ترك أثره كذلك. نشعر بخيبة أمل لأنّنا لم نحصل علی تعهّدات بمبالغ أكبر، بالتحديد لأنّنا لم نرَ التزامات من قبل دول الخليج، علماً أنّ النزاع في فنائها الخلفي. أحياناً، يأتي بعض التعهدات في وقت لاحق... سوف نری. لكنّنا عموماً، يمكننا القول إنّ المتوفّر يبقينا علی قيد الحياة حالياً.
لقد خفّضنا برامجنا بشكل كبير ونُنفق نصف ما ننفقه عادةً، وهو 200 مليون دولار شهرياً للمساعدات الغذائية. واليوم نُنفق 100 مليون دولار شهرياً ونقدّم حصصاً غذائية كاملة لخمسة ملايين شخص ومخفّضة (جزئية) لثمانية ملايين شخص. ويمكننا الحفاظ علی ذلك حتی شهر مايو/ أيار المقبل علی الأغلب.
وهل يمكن وضع ذلك في السياق الأوسع المتعلق باحتياجات اليمنيين؟
يحتاج اليمن إلی نحو أربعة ملايين طنّ من الحبوب سنوياً، منها أكثر من 800 ألف طنّ من روسيا ونحو 700 ألف طنّ من أوكرانيا. ويسعی برنامج الأغذية العالمي إلی جلب نحو مليون طنّ، بعضها من دول مثل الولايات المتحدة الأميركية، لكنّنا نشتري كذلك جزءاً من السوق. لذا سنقوم كذلك بسحب بعض مشترياتنا من هذا المخزون المحتمل الذي قد يأتي من روسيا وأوكرانيا. إذاً، هذا يعني أن الصراع له بالفعل تأثير فوري علی إمداداتنا.
من جهة ثانية، نلاحظ تأثير (الحرب الأوكرانية) علی الأسعار عموماً، وبالتالي علی تكلفة التشغيل. بحسب تقديراتنا، سوف ننفق 120 مليون دولار إضافي بحلول نهاية العام، فقط بسبب زيادة أسعار الوقود وتكلفة التشغيل. وهذه مشكلة كبيرة إضافية بالنسبة إلينا. وكمثال بسيط، لدينا عقد مع ناقلة كنّا نستخدمها في الأعوام الماضية وتتحرّك ذهاباً وإياباً ما بين الحُديدة (غربي اليمن) وجدّة (غربي السعودية)، وعندما أبرمنا العقد مع الشركة للمرّة الأولی قبل سنوات كانت التكلفة سبعة آلاف دولار في اليوم أمّا الآن فهم يريدون نحو 50 ألف دولار في اليوم. في البداية، عندما رأيت ذلك ظننت أنّ ثمّة تلاعباً بالسوق واستغلالاً للوضع والصراع في أوكرانيا... لكنّ الأمر لم يكن كذلك. ونحن نشحن الكثير إلی كلّ الأمكنة ولاحظنا أنّ هذا كان سعراً تنافسياً حول العالم. وأظنّ أنّ تكاليف الشحن حالياً وصلت إلی درجات قصوی.
لقد أصدرتم قبل أيام "تقرير التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي" حول اليمن. الصورة تبدو قاتمة، فهل يمكنك أن تحدّثنا عنه؟
دعيني أوّلاً أتطرّق وباختصار للمنهجية المعتمدة. هذا ثامن تقرير نصدره منذ بدء الصراع. ولعله التقرير الأكثر شمولاً الذي أنجزناه، إذ استمرّت الدراسة لستّة أشهر وشارك فيها عدد من المنظمات المحلية غير الحكومية ووكالات الأمم المتحدة مثل منظمة الأغذية والزراعة (فاو) ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) وبرنامج الأغذية العالمي وغيرها. وقد تعمّقت "يونيسف" في بحثها في قضايا كثيرة متعلقة بسوء التغذية، وهذا أمر مهمّ لأنّ فجوة كبيرة كانت تُسجّل في الماضي في هذا السياق. كذلك تمكّنّا من تغطية 323 مديرية يمنية من أصل 333 تقريباً في كلّ أنحاء البلاد، ولم نتمكّن من الوصول إلی 10 مديريات بسبب الصراع.
وقد شملت الدراسة نحو 100 ألف مقابلة (منزل أو عائلة) معمّقة تتعلق بالتقييمات الغذائية.
الاستنتاج الأوّلي هو أنّ الأمور تزداد سوءاً، لكنّ التقرير أظهر لنا كذلك أنّه في إمكاننا، من خلال الاستثمارات الصحيحة، تغيير الوضع. وما لاحظناه هو أنّ انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية الحاد ازدادا في اليمن في عام 2022، وحالياً يحتاج أكثر من 17 مليون شخص إلی مساعدات غذائية، مقارنة بـ 16 مليوناً في نهاية العام الماضي. ونتوقّع أن يرتفع العدد لـ 19 مليون يمني يعانون من نقص الأمن الغذائي بدءاً من يوليو/ تموز 2022 حتی نهاية العام، علماً أنّهم في المرحلة الثالثة فما فوق من التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي. (المرحلة الثالثة هي المرحلة الخطيرة مع أزمة حادة غذائية ومعيشية، والمرحلة الرابعة هي مرحلة حرجة، والمرحلة الخامسة مرحلة حرجة جداً/ كارثة إنسانية). لكنّ مصدر القلق الكبير هو هؤلاء الذين هم في المرحلة الرابعة والخامسة. حالياً، ثمّة 31 ألف شخص في المرحلة الخامسة. ونعتقد أنّه في إمكاننا الاستمرار وتقديم المساعدات لهم، لكن ما يقلقنا هو التوسّع الجغرافي. وهذه إشارة سيئة بالنسبة إلينا، لأنّها تُظهر أنّ الناس في المناطق التي كانت مستقرّة صاروا أقلّ استقراراً، وأنّ للصراع تأثيراً أوسع. وفي العام الماضي كانوا في 11 مقاطعة، أمّا اليوم ففي 23 مقاطعة.
وعندنا مشكلة حقيقية في النصف الثاني من العام، إذ نتوقّع أن يصل عدد هؤلاء إلی أكثر من 160 ألف شخص في المرحلة الخامسة (يواجهون ظروفا شبيهة بالمجاعة أو كارثة إنسانية). ويمكن القول إنّه لو حصلنا ربّما علی المساعدات اللازمة من مؤتمر المانحين سوف نكون علی ثقة بأنه سوف تكون مساعدات أكبر علی الطريق في الأشهر الستة المقبلة. ولكنّنا لا نشعر بثقة أنّ هذا سوف يحدث، لأسباب عديدة من بينها أنّ انتباه العالم يتحوّل عن اليمن بعد سبعة أعوام من الصراع، كذلك فإنّ ثمّة حالات طوارئ في مناطق أخری من بينها أفغانستان وأوكرانيا وغيرهما. وهذا يجعلنا أكثر قلقاً.
وما هي الأسباب وراء الارتفاع في الأعداد كما في عمق تلك الحاجة؟
كلّها أسباب نعرفها. الاقتصاد في حالة حرجة كما تضاعفت تكلفة السلّة الغذائية مقارنة بالعام الماضي وانخفضت قيمة العملة في الجنوب، وهذا له تأثير كبير علی نسبة عالية من السكان، والحصار الذي تفرضه دول التحالف في الشمال علی الوقود تظهر نتائجه بطرق مختلفة.
ويترك ذلك أثره علی أسعار الوقود العادية، وكذلك علی أسعار السلع والأدوية وحياة اليمنيين اليومية، بما فيها عدم قدرتهم مثلاً علی الحصول علی الرعاية الصحية اللازمة لأنّ المستشفيات لا تملك الوقود الكافي لتشغيل المولدات الكهربائية. كذلك يؤدّي إلی ارتفاع أسعار تكلفة النقل. فالوقود ضروري لنقل كلّ تلك الحاجيات وكذلك لتنقّل عاملينا. وأظنّ أنّنا أكبر مستخدم لشبكة النقل في البلاد.
وهؤلاء الذين يقومون بعمليات النقل يخبروننا مثلاً بأنّ الوقود نفد، وبأنّ شحنات العمل التي نتعاقد عليها سوف تصل متأخّرة ما بين أربعة وسبعة أيام، لأنّهم لا يملكون الوقود للوصول إلی هناك في الوقت الملائم، أو لأنّ عليهم الانتظار في الطابور لفترة طويلة للحصول علی الوقود. وفي بعض الحالات، في المناطق البعيدة، يقولون إنّه لا يمكنهم توصيلها. هذا هو التحدّي من جهة النقل.
طواحين القمح ربما بوضع أفضل، إذ كان من الممكن إدخال الوقود. لكنّه في حال استمرار حصار التحالف العربي، فإنّهم سوف يواجهون مشكلات أيضاً.
وفيما يخصّ الوقود، نری نقصاً حاداً في الإمدادات في الشمال، وحصار التحالف للشاحنات التي تصل إلی الحُديدة، وفي الجنوب عدم قدرة سلسلة التوريد علی دفع الوقود إلی شبكة محطات الضخّ. فثمّة سفن في ميناء عدن (جنوبي اليمن) لكنّها غير قادرة علی تفريغ الوقود بسرعة كافية وإخراجه.
لذلك، ثمّة نوع من الاختناق العام يحدث في الجنوب. في الوقت ذاته، بدأنا نری شاحنات الوقود تتحرّك من الجنوب إلی الشمال ولا ندري مدی نجاح ذلك. ونأمل أن يؤدّي ذلك في نهاية المطاف إلی توفّر الوقود في مستودعات وقود شركة النفط اليمنية.
بالإضافة إلی الأرقام التي تطرّقنا إليها، يشير التقرير إلی أنّ نحو 2.2 مليون طفل دون الخامسة، من بينهم أكثر من نصف مليون طفل يمني، يعانون من سوء التغذية الحاد الوخيم، كذلك من المتوقّع أن تعاني 1.3 مليون امرأة حامل ومرضعة من سوء التغذية الحاد في العام الجاري، وثمّة أرقام أخری مرعبة. ما الذي تعنيه هذه الأرقام بالنسبة إلی حياة اليمنيين ومستقبل البلاد؟
هذا يعني أنّه لن تكون ممكنة معالجة أوضاع صحية عادية بسبب عدم توفّر الخدمات الطبية أو عدم قدرة الأهل علی الوصول إلي مكان ما لتلقّي العلاج أو عدم مقدرة الطفل علی الصمود بسبب سوء التغذية الحاد وغيرها، والنتيجة الوفاة. وهذا واقع شهدته في واحدة من الحالات.
لقد عملت في سبع مناطق مختلفة حول العالم في مجال العمل الإنساني ولم أرَ غضباً وإحباطاً في ما يتعلق بعدم قدرة الناس علی الحصول علی المساعدة مثلما رأيت باليمن. لأنّهم (اليمنيون) ببساطة غير قادرين علی الحصول علی الدعم. نحن نطعم أكثر من نصف سكان اليمن وهذا أكبر برنامج مساعدات غذائية نديره في العالم. والآن لا تتوفّر لدينا الموارد للاستمرار.
وإذا لم نحصل علی مزيد من الدعم المادي بالإضافة إلی ما تمّ التعهّد به في مؤتمر المانحين، فإنّ عدد الذين يواجهون خطر المجاعة سوف يتخطّی توقّعاتنا ويفوق رقم 160 ألف شخص في المرحلة الخامسة (مجاعة/ كارثة إنسانية).
هل ترغب في إضافة شيء أو تأكيده؟
هذه الأزمة تحدث في الفناء الخلفي للمنطقة العربية وتتطلّب حلاً. المساعدات الإنسانية (من خلال الدعم المادي) جزء من الحل، وهي عنصر يمكن تحقيقه الآن.
واضاف نحن نعلم أنّه في إمكاننا تغيير بعض هذه الأرقام التي تحدّثنا عنها. نحن نعلم أنّه في إمكاننا إنقاذ الأرواح. نحن نعلم أنّه في إمكاننا وقف انزلاق الأجيال إلی الأزمات، إذا توفّر لدينا الدعم الإنساني علی المدی القصير، في الوقت الذي تتمّ فيه مناقشة السلام والمصالحة.